فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
اعلم! أن وجه نظم المحصل مع المحصل انصباب مدح القرآن إلى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ إذ إنه نتيجة له، وبرهان إنّيّ عليه، وثمرة هدايته، وشاهد عليه. وبسبب تضمن التشويق إشارة إلى جهة حصة هذه الآية من الهداية، وإلى أنها مثال لها.
أما وجه {الذين} مع {المتقين} فتشييع التخلية بالتحلية التي هي رفيقتها أبدًا؛ إذ التزيين بعد التنزيه، ألا ترى أن التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ما سوى الله.
والتحلية فعل الحسنات: إما بالقلب أو القالب أو المال. فشمس الأعمال القلبية الإيمان، والفهرستة الجامعة للأعمال القالبية {الصلاة} التي هي عماد الدين، وقطب الأعمال المالية {الزكاة} إذ هي قنطرة الإسلام.
اعلم! أن {الذين يؤمنون بالغيب} مع أنه إذا نظرت إلى مقتضى الحال إيجاز، إلا إنه إذا وازنت بينه وبين مرادفه وهو المؤمنون تظنه إطنابا؛ فأبدل ال بالذين الذي من شأنه الإشارة إلى الذات بالصلة فقط، كأنه لاصفة له إلا هي للتشويق على الإيمان، والتعظيم له؛ والرمز إلى أن الإيمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات، وأبدل مؤمنون بيؤمنون لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسنة في نظر الخيال، وللإشارة إلى تجدده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهورًا ازدادوا إيمانا.
{بالغيب} أي بالقلب، أي بالإخلاص بلا نفاق. ومع الغائبية، وبالغائب، وبعالم الغيب.
واعلم! أن الإيمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين وإجمالا في غيرها.
إن قلت: لا يقتدر على التعبير عن حقائق الإيمان من العوام من المائة إلا واحد؟
قيل لك: إن عدم التعبير ليس عَلَمًا على عدم الوجود. فكما أن اللسان كثيرًا ما يتقاصر عن أن يترجم عن دقائق ما في تصورات العقل؛ كذلك قد لايتراءى بل يتغامض عن العقل سرائر مافي الوجدان، فكيف يترجم عن كل ما فيه؟ ألا ترى ذكاء السكاكي ذلك الإمام الداهية قد تقاصر عن اجتناء دقائق ما أبرزته سجية امرئ القيس، أو بدويّ آخر؟ فبناء على ذلك، الاستدلال على وجود الإيمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه. بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والإثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالم بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: لا. فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا.
ثم إن الإيمان- كما فسّره السعد- نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالإيمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الأزل يضئ دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر أنسية له مع كل الكائنات، ويؤسس مناسبة بين الوجدان وبين كل شيء، ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الإنسان أن يصارع جميع الحوادث والمصيبات، ويعطيه وُسْعةً يقتدر بها أن يبتلع الماضي والمستقبل. وكما أن الإيمان شعاع من شمس الأزل؛ كذلك لمعة من السعادة الأبدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل الآمال، ونواة كل الاستعدادات المودعة في الوجدان، فتنبت ممتدة إلى الأبد، فتنقلب نواة الاستعداد كشجرة طوبى.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ}.
اعلم! أن وجه النظم أظهر من الشمس في رابعة النهار. وأن في تخصيص الصلاة من بين حسنات القالب إشارة إلى أنها فهرستة كل الحسنات وأنموذجها ومَعْكسها. كالفاتحة للقرآن، والإنسان للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على أنواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع.
ثم إنه أقام {يقيمون} مقام المقيمين لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والانتباه الروحاني الإلهي في العالم الإسلامي إلى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصب عين الخيال، ليهيج ويوقظ ميلان السامع للتأسِّي؛ إذ من تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، والقاء انتباه فيهم، وإفراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملح يرى في نفسه اشتياقا لأن ينساب إليهم. فهكذا الآذان المحمَّدي بين الإنسان في صحراء العالم {ولله المَثَلُ الأعْلَى}.
وإنما لم يقتصر في مسافة الإيجاز على يصلّون بل أتمها ب{يقيمون الصلاة} للإشارة إلى أهمية مراعاة معاني الإقامة في الصلاة من تعديل الأركان، والمداومة، والمحافظة، والجد، وترويجها في سوق العالم. تأمل!
ثم إن الصلاة نسبة عالية، ومناسبة غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الأزل، فمن شأن تلك النسبة أن يعشقها كل روح، وأركانها متضمنة للأسرار التي شرحها أمثال الفتوحات المكية، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبها كل وجدان، وأنها دعوة صانع الأزل إلى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج. فمن شأنها أن يشتاقها كل قلب، وفيها إدامة تصور عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول إليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة الالهية، وامتثال النظام الرباني. والإنسان يحتاج إلى تلك الإدامة من حيث هو إنسان لأنه مدنيّ بالطبع، فيا ويلَ من تركها! وياخسارة من تكاسل فيها! ويا جهالة من لم يعرف قيمتها! فسحقًا وبعدًا وافًّا وتفًّا لنفسِ مَن لم يستحسنها.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وجه النظم: أنه كما أن الصلاة عماد الدين وبها قوامه؛ كذلك الزكاة قنطرة الإسلام وبها التعاون بين أهله.
ثم إن من شروط أن تقع الصدقة موقعها اللائق:
أن لا يسرف المتصدق فيقعد ملومًا، وأن لا يأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه، وأن لا يمنّ فيستكثر، وأن لا يخاف من الفقر، وأن لا يقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا، وأن لا يصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.
فلإِحسان هذه النكت، وإحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على الأفهام بإيثار {ومما رزقناهم ينفقون} على يتصدقون أو يزكّون وغيرهما؛ إذ أشار بمن التبعيض إلى رد الإسراف، وبتقديم {مما} إلى كونه من مال نفسه، وبرزقنا إلى قطع المنة. أي: أن الله هو المعطي وأنت واسطة، وبالإسناد إلى نا إلى: «لاَ تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلاَلًا». وبالإطلاق إلى تعميم التصدق للعلم والفكر وغيرهما. وبمادة {ينفقون} إلى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.
ثم إن في الحديث الصحيح: «الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلاَمِ».
أي: الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلم بالعبور عليها؛ إذ هي الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم الواقعة في ترقيات البشر.
نعم! في وجوب الزكاة وحرمة الربا حكمة عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ إذ لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظرًا تاريخيًا وتأملت في مساوي جمعية البشر لرأيت أسّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:
إحداهما: إنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ أن يموتَ غيرِي من الجُوعِ.
والثانية: اِكْتَسِبْ أنْتَ لآكُلَ أنَا. واتْعَبْ أنتَ لأَستريحَ أنَا.
فالكلمة الأولى الغدارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الإنساني فاشرف على الخراب. والقاطعُ لعرق تلك الكلمة ليس إلاّ الزكاة.
والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ حرمة الربا. فتأمل!
اعلم! أن شرط انتظام الهيئة الاجتماعية أن لا تتجافى طبقات الإنسان، وأن لا تتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم. مع أن بإهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلاّ صدى الاختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد والنفرة بدلا عن الاحترام والإطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والإحسان والتلطيف إلاّ نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفًا!.. لأجل هذا قد صارت مزيةُ الخواص التي هي سبب التواضع والترحم سببًا للتكبّر والغرور. وصار عجزُ الفقراء وفقرُ العوام اللذان هما سببا المرحمة عليهم والإحسان إليهم سببًا لأسارتهم وسفالتهم، وانشئت شاهدًا فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلاّ جعل الزكاة- التي هي ركن من أركان الإسلام- دستورًا عاليًا واسعًا في تدوير الهيئة الاجتماعية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (4):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولًا أوليًا فقال: {والذين يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجادًا مستمرًا {بما أنزل اليك} أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛ {وما أنزل من قبلك} أي على الأنبياء الماضين، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جدًا بينه بالتقديم إظهارًا لمزيد الاهتمام فقال: {وبالآخرة} أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر.
قال الحرالي: الآخرة معاد تمامه على أوليته. انتهى.
ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال: {هم يوقنون} لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد. انتهى.
فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله.
والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية والماليه من الأفعال والتروك، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] وكلاهما من أعمال البدن، والنفقه عمل مالي، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلًا على السالكين، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعبًا أيسر على النفس من الكف عما تشتهي.
وفي وصفهم أيضًا بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان قبل ذلك مؤمنًا بموسى وعيسى عليهما السلام، أو ما كان مؤمنًا بهما، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 2- 3] فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول: كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهَ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} معطوفٌ على الموصول الأول، على تقدير وصلِه بما قبله، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معًا، أو من حيث المعنى فقط، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها، الموجبةِ للاتقاء عنها، بخلاف الآخرين، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجًا تحت المتقين، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بينهما لاختلاف الذوات، بل لاختلاف الصفات كما في قوله:
إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام ** وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ

وقولِه:
يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصـ ** صـابحِ فالغانِمِ فالآيبِ

للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له، فإن كمالَ العلم بالعمل، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطويًا تحت الأول تنبيهًا على كمال صِحتِه، وتعريضًا بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف، فإن كلًا من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقرونًا بما قُرن به فضيلةٌ باهرة، مستدعية لما ذكر، والله تعالى أعلم.
وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع. وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن، وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيمًا لشأنهم وترغيبًا لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال.